فصل: تفسير الآية رقم (50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (41- 42):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [41- 42].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ} أي: بما هو أهله من صنوف التحميد والتمجيد: {ذِكْراً كَثِيراً} أي: يعم الأوقات والأحوال. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى لم بفرض على عباده فريضة، إلا جعل لها حدّاً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حدّاً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلها. فقال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، وقال: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}، أي: يالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: في أول النهار وآخره، ليسري أثر التسبيح فيهما بقية النهار والليل؛ لأن ذكره وتسبيحع، يفيدان تنوير القلوب وقت خلوّها عن الأشغال.
قال الزمخشري: والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة، ليبين فضله على سائر الأذكار، لأن معناه تنزيه ذاته، عما لا يجوز من الصفات والأفعال، ومثال فضله على غيره من الأذكار، فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، والطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه، من كثرة الصلاة والصيام، والتوفر على الطاعات كلها. ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره، تكثير الطاعات والإقبال على العبادات، فإن كل طاعة وكل خير، من جملة الذكر. ثم خص من ذلك التسبيح بكرةً وأصيلاً، وهي الصلاة في جميع أوقاتها؛ لفضل الصلاة على غيرها، أو صلاة الفجر والعشاءين؛ لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (43):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [43].
{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين، فإن صلاته تعالى عليهم، مع عدم استحقاقهم لها وغناه عن العالمين، مما يوجب عليهم المداولة على ما يستوجبه تعالى عليهم من ذكره تعالى وتسبيحه. أفاده أبو السعود.
وقال ابن كثير: هذا تهييج إلى الذكر، أي: أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم، كقوله عز وجل: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151- 152]. انتهى.
والصلاة: الرحمة والعطف. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار الذكر، والتوفر على الصلاة والطاعة: {لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ} أي: ظلمة الكفر والمعاصي والشبهات ومساوئ العادات: {إِلَى النُّورِ} أي: نور الإيمان والسنة والطاعة، ومحاسن الأخلاق: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} أي: حيث لم يتركهم يتخبطون في عمياء الضلالة والجهالة، بل أنار لهم السبل وأوضح لهم المعالم. وذكر الملائكة تنويهاً بشأنهم وشأن المؤمنين، وأن للملأ الأعلى عناية وعطفاً وترحماً، بالاستغفار والدعاء والثناء على الجميل، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 7- 9] الآية.

.تفسير الآيات (44- 46):

القول في تأويل قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [44- 46].
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} أي: يحيون يوم لقائه، بالموت أو الخروج من القبر أو دخول الجنة بسلام، تبشيراً بالسلامة من كل مكروه وآفة، والإضافة إما من إضافة المصدر إلى المفعول، والمحيي لهم، إما الله جل جلاله، لقوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، تعظيماً لهم وتفضلاً منه عليهم، كما تفضل عليهم بصنوف الإكرام، وإما الملائكة لآية: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23- 24]، أو من إضافة المصدر لفاعله، أي: تحية بعضهم بعضاً بالسلام، وقد يستدل له بآية: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10]، {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} يعني الجنة وما حوته، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} أي: على من بعثتَ إليهم بالبلاغ: {وَمُبَشِّراً} أي: بالثواب لمن آمن: {وَنَذِيراً} أي: من النار لمن كفر: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} إلى دينه وطاعته والإقرار بوحدانيته: {بِإِذْنِهِ} أي: بأمره ووحيه: {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} أي: يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، ويهتدي بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية.

.تفسير الآيات (47- 49):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [47- 49].
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} أي: ثوابا عظيماً وأجراً جزيلاً: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي: فيما يرجفون به، ويعيبون من جاهليتهم وعوائدهم، بإلانة الجانب في التبليغ، والمسامحة في الإنذار والتمهل في الصدع بالحق: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي: إيصال الضرر إليهم، مجازاةً لفعلهم. بل اعف واصفح. أو معناه: دع ما يؤذونك به بسبب صدعك إياهم. فالمصدر مضاف إلى الفاعل على الأول، وإلى المفعول على الثاني: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي: موكولاً إليه، وكفيلاً فيما وعدك من النصر، ودحر ذوي الكفر.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي: تزوجتموهن: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أي: تجامعوهن: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} أي: تستوفون عددها من إحصاء أقراء، ولا أشهر تحصونها عليهن: {فَمَتِّعُوهُنَّ} أي: أعطوهن ما يستمتعن به من عرض أو عين مال: {وَسَرِّحُوهُنَّ} أي: خلوا سبيلهن بإخراجهن من منازلكم؛ إذ ليس لكم عليهن عدة: {سَرَاحاً جَمِيلاً} أي: من غير ضرار ولا منع حق.
تنبيه:
قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة:
منها إطلاق النكاح على العقد وحده. وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منه، وقد اختلفوا في النكاح، هل هو حقيقة في العقد وحده، أو في الوطء، أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال، واستعمال القرآن، إنما هو في العقد والوطء بعده، إلا في هذه الآية، فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ}.
وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها، وقوله تعالى: {الْمُؤْمِنَاتِ} خرج مخرج الغالب؛ إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك، بالاتفاق.
وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما، وابن المسيب والحسن البصري وزين العابدين، وجماعة من السلف بهذه الآية، على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} بعقب النكاح بالطلاق، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله. وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وطائفة كثيرة من السلف والخلف، وأيده ما روي مرفوعاً «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وهكذا روى ابن ماجه عن علي والمِسْوَر بن مخرمة رضي الله عنهما، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق قبل النكاح». وقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} هذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها، لا عدة عليها. فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت، ولا يتسثنى من هذا إلا المتوفى زوجها، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً، وإن لم يكن دخل بها، بالإجماع أيضاً.
وقوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها. قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، وقال عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236].
وعن ابن عباس: إن كان سمى لها صداقاً، فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمى لها صداقاً، فأمتعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل. انتهى.
وعليه، فالآية في المفوضية التي لم يُسم لها. وقيل: الآية عامة. وعليه، فقيل الأمر للوجوب، وأنه يجب مع نصف المهر المتعة أيضاً. ومنهم من قال للاستحباب، فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء.
لطيفة:
قال الرازي: وجه تعلق الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى في هذه السورة، ذكر مكارم الأخلاق، وأدّب نبيه على ما ذكرناه. لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل، فكلما ذكر للنبي مكرمةً، وعلمه أدباً، ذكر للمؤمنين ما يناسبه. فكما بدأ الله في تأديب النبي صلّى الله عليه وسلم بذكر ما يتعلق بجانب الله، بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1]، وثنى بما يتعلق بجانب العامة بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} [الأحزاب: 45]، كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41]، ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ثم، كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة، ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيهم، فقال بعد هذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53]، وبقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ}. انتهى.

.تفسير الآية رقم (50):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [50].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن فإنها أجور الأبضاع. وإيتاؤها، إما إعطاؤها معجلة، أو تسميتها في العقد. وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره.
قال ابن كثير: كان النبي صلّى الله عليه وسلم لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشّاً، وهو نصف أوقية فالجميع خمسمائة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهَرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حُيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس وتزوجها، رضي الله عنهن. انتهى.
وتقييد الإحلال له عليه الصلاة والسلام بإعطاء المهور، ليس لتوقف الحل عليه، ضرورةَ أنه يصح العقد بلا تسمية. ويجب مهر المثل أو المتعة على تقديري الدخول وعدمه. بل لإيثار الأفضل والأولى له عليه الصلاة السلام، كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية، في قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ} فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها.
قال ابن كثير: أي: وأباح لك التسرّي مما أخذت من المغانم، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليه السلام، وكانتا من السراري، رضي الله عنهما: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} أي: من مكة، إلى المدينة، والتقييد لبيان الأفضل كما تقدم، ولهم في إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة، عدة أوجه. فيها اللطيف والضعيف، وعندي أن الإفراد والجمع تابع لمقتضى السبك، والنظم ورقة التعبير، ورشاقة التأدية، كما يدريه من يذوق طعم بلاغة القول، ويشرب من عين فصاحته، فالإفراد فيهما هنا أرق وأعذب من الجمع، كما أن في آية: {بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ} [النور: 61]، أمتن وأبلغ من الإفراد، ولكل مقام مقال، ولكل مجال حال: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي: يتزوجها ويرغب في قبول هبة نفسها بدون مهر، وقد سمى من الواهبات ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم رضي الله عنهن.
وفي البخاري عن عائشة قالت: كنت أغار في اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] الآية- قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وعن ابن عباس، أنه لم يكن عنده صلّى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له، أي: أنه لم يقبل ذلك وإن كان مباحاً له؛ لأنه مردود إلى إرادته. والله أعلم.
قال ابن القيم: وأما من خطبها صلّى الله عليه وسلم ولم يتزوجها، ومن وهبت نفسها له ولم يتزوجها، فنحو أربع أو خمس. وقال بعضهم: هن ثلاثون امرأة. وأهل العلم بالسيرة وأحواله صلّى الله عليه وسلم، لا يعرفون هذا بل ينكرونه.
قال أبو السعود: وإيراده عليه الصلاة والسلام في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات، للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه السلام حسب اختصاصها به كما ينطبق به قوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ} أي: خلص لك إحلالها خالصة أي: خلوصاً، فهي مصدر مؤكد، أو صفته أي: هبة خالصة: {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: فإنهم لا تحل لهم الموهوبة إلا بوليّ ومهر، خوف أن يستسري النساء وينتشر الفحش بدعوى ذلك. قال قتادة: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل، بغير وليّ ولا مهر إلا للنبي صلّى الله عليه وسلم: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي: على المؤمنين: {فِي أَزْوَاجِهِمْ} أي: في حلّها من الوليّ والشهود والمسمى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي: في حلّها من توسيع الأمر فيها.
وقال السيوطي في الإكليل: فسر بالاستبراء، وليس له في القرآن ذكر إلا ها هنا.: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي: ضيق. واللام متعلقة بـ: {خالصة} أو بفعل يفهم مما قبله، أي: قد علمنا ما فرضنا عليهم، وأسقطناه عنك لرفع الحرج عنك والضيق، فيما اقتضته الحكمة والعناية بك: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} أي: يغفر ما يعسر التحرز عنه، ويرحم فيما يوسع في مواقع الحرج.